السبت، مايو 19، 2012

هُم هناك... وأنا هنا

الفارق بين هذا العام وكل الأعوام السابقة بالنسبة لي أنني أصبحت أدرك أني أملك حياة خاصة بالفعل، بغض النظر عن مدى أهميتها العظيمة أو التافهة حاليًا، ومعنى ذلك تحديدًا، أني أدرك أن حياتي الباطنية أصبحت غير قابلة للمشاركة مع الآخرين بسهولة، مهما بذلت من جهد ومشقة من أجلهم.
 *
في كل مرة كنت أخرج برفقة صديقة لي، كنت أعلم أن هناك وقتًا بعد أن أودعها ينفصل فيه وجداننا المشترك خلال لقاءنا الحميمي. هذا الوقت يمثل 99% من حياتها اليومية تقريبًا، مع أسرتها في المنزل، مع زملائها في العمل، لا وجود لي فيه، سوى صورة باهتة قد تطفو لثوانٍ معدودة على سطح الذاكرة، ثم تسقط مرة أخرى إلى القاع.
 *
حدثني صديق بالأمس أنه لا يستطيع أن يفسر مفهومًا للصداقة، كيف تنشأ وكيف تستمر بعيدًا عن كليشيه ارتباطها بالحاجة للتواصل، ربما لأنه حديث العهد بالإجتماع الإنساني لا يعلم أن السبب يكمن في عشوائيتها المطلقة في جميع الصداقات التي لا تنشأ بأغراض مشتركة أو متبادلة.
 *
في أكتوبر الماضي، كنت يوميًا أردد موال سمير غانم الساخر في مسرحية "المتزوجون" كثيرًا دون سببٍ ظاهر، لم يكن بوسعي معرفة علاقته بما اختبرته وقتها من أوجاع الحب، في الشهور التالية تكشف لي السبب والحقيقة خلفه وتكشف لي الأصل الذي كنت أبحث عنه أيضًا.
*
لا سبيل لي أن أصبح مثلما تمنيت أن أصبح مثل بقية الناس الذين لا يتسألون عن القيمة مقارنة بالمتعة اللحظية، سأظل محرومًا من خصوصية أن أكون من العاديين، وسأظل منتبهًا لأزمات الإتصال في كل علاقاتي الإنسانية.

الآخرون دائمًا هناك.. وأنا –بالطبع- هنا.

الثلاثاء، مارس 20، 2012

والعودُ -دائمًا- أحمدُ

أستطيع الآن أن أعطي مبررًا لعدائيتي. كانت هناك روح قلقة تنتفض بين أضلاعي، بينما أطرافي مكبلة بالعجز والشلل، ولم أجد في الكتابة ما يشفي سرطان الغلّ المنتشر على سطح الروح. لم أجد كتابة تحمل كل ما سبق، وتخلو من كل ما سبق. كان من المفيد – لفترة مؤقتة – أن أستغرق في إعادة النظر والتأمل في نفسي والآخرين حتى أتلاشى من بينهم وتذوب ذرّاتي فيهم.
هل كان بمقدوري المفاضلة بين أن أحيا كقصيدة كتبها شاعر مخضرم أو أن أصبح شاعر مبتدئ يرتجل القصائد؟

لست أدري ماذا كسبت على وجه التحديد، مازلت أراني ساذجًا ضعيف الثقة في نفسي وأخشى السباحة في نهر اليومي الدامي رغم أنني لم أستسغ لفترة طويلة من حياتي حقيقة خفتي كابن البارحة المدلل، ولم أفهم أبدًا كيف يتحمل المرء حقيقة كهذه! على أية حال كانت الحياة أصغر وألوانها أقل وأوضح كثيرًا. 
سأعتبر نفسي فائزًا.

الاثنين، فبراير 13، 2012

حلم المشير

انتهيت من مداعبة عاهراتي وحان وقت ذهابي إلى الجامعة، عرجت أولاً على مسجد النور بالعباسية في طريقي، صعدت السلم المؤدي إلى باب المسجد، وجدت المشير يهرول خارجًا بينما كان بعض الناس يلحقون به في مقدمتهم عمرو عزت الذي ناداه بالسفاح، ألقى المشير خائفًا حذاءه خارج العتبة وارتداه سريعًا.
لكنه توقف وعاد مرة أخرى إلى داخل المسجد، وراح يتنقل الناس متسائلاً في ذل ودهشة عن رأيهم فيه، والناس تسخر منه وتقول أنه لم يكن إلا عبدًا لمبارك، ردد وراءهم الإجابة مغتاظًا ثم هبط السلم واختفى تمامًا.
تهامس الشباب المتبقي في ساحة المسجد أن الجيش سينتقم منهم جميعًا، كنت أبحث عن أحد أعرفه بينهم، فوجدت أحمد جمال يسعى في أرجاءه حاملاً رشاش آلي صغير على صدره، انتظرت حتى توقف ثم ذهبت لأحدثه، كان الإرهاق والتعب يشعان من وجهه لكن ابتسامته المسلمة بالحوادث وقضاءها بعثت في نفسي اطمئنانًا، تحادثنا قليلاً عن ضرورة الحفاظ على الحياة من أجل المعارك القادمة واتفقنا على عدم التهور والإندفاع، ودعته وأخبرته أن علي الذهاب إلى الجامعة ثم مضيت خارجًا.
وجدت تشكيلات من الشرطة العسكرية وسيارات تحمل شعار القوات الجوية تقف في حوش المسجد، هبطت السلم في حذر بالغ وخفت أن يقبض عليَّ أحد من العساكر، تشاغلت بالإنتباه أنني ما زلت أرتدي بيجامتي الكستور، ثم أخرجت هاتفي المحمول وحاولت الإتصال بأبو جمال كي أخبره عن عدد المصفحات الواقفة خارج المسجد، عبرت الشارع وأتاني أول جرس من هاتفه.

ثم استيقظت.

الاثنين، يناير 09، 2012

أنا قلبي دليلي

* وقال لي حَ تاكل خرا

أطاح الحزن بما تبقى من عقل لدي. لن أصبح أكثر تعاسة مما أنا عليه الآن.
هل عليّ أن أكمل عبوري بالسرعة المفترضة وأدعي أن هناك أحد في انتظاري؟
لا، لن أتصنع ذلك. يكفي أن أصابعي تنقبض بخوف لا إرادي كلما تذكرت معضلة اللمس. تلك المسافات بيني وبين الآخرين، كم تصيبني بالفزع!
كل روح قابلة للكسر، تكسر فعليًا، ولا تعيدها الأفراح المؤقتة. راحة البال والاطمئنان والنوم العميق والأحلام المبهجة على عبثيتها أشياء مفقودة لم أعد أنحني كي أبحث عنها، حتى فرحة لقاءات مقاهي وسط البلد فقدتها ولا يستطيع أحد أن يعيدها إليّ.
إذن، ماذا أفعل؟
لا شيء! فقط أنتظر وأستعد لتقبل المزيد من الأوقات الخرائية بتعلم كيفية تحملها.

الأحد، يناير 08، 2012

موعد مع الأنا بالأسفل

أحببت منذ صغري التسكع في شوارع القاهرة، لكنني تعودت على تحديد وجهتي النهائية قبل أن أبدأ تسكعي كل مرة. هذا لا يعني أنني أختار أسهل أو أقصر الطرق إليه، بل النقيض، ربما تقودني قدماي إلى الأعقد والأطول، وقد تنتهي بي إلى محطة أخرى مختلفة. وإذا كانت متعة التسكع ترتبط لدى الآخرين بألفة الطريق وطول المسافة، فإن ارتباطها بإكتشاف الجديد يجعل منها بالنسبة لي في كل جولة أمنية صعبة المنال.
يحب البعض أن يعطي تشبيهات مادية لأشياء معنوية، ربما لأن ذلك يجعل من المعنى أسهل في الفهم وأيسر في الإستدعاء. فإذا أردت أن أشبه الحياة في الشهر المنصرم فسوف أشبهها بجولة تسكع. كنت أسير عبر الأيام نحو الوحدة، أتخفف من الأحباء، أغضب بنفس مقدار افتقادي إليهم، أعزل نفسي أكثر كي أصبح جزيرة صغيرة في منتصف المحيط الهادئ، أتواصل أحيانًا مع الآخرين ثم أعود إلى شرنقتي وأحكم نسيجها. لم أكن أبحث عن السلام النفسي في طريقي إلى عزلتي الكلية، للعزلة ضجيجها وعنفها، فلا نفع للحكمة على هذه الأرض إلا بقدر ما توفره من سكينة نسبية يستأنف بعدها الصخب والفوضى. 
أعلم أن هذا الطريق الذي أمشيه الآن يؤدي إلى هاوية سحيقة، لكنني لن أسقط فيها هذه المرة من أعلى حافة ما، بل سأنحدر إليها متعمدًا مصطحبًا شياطينها معي.

حلقة ملغاة من المسلسل الدرامي "سامحوني ما كانش قصدي"

حان وقت الأرق الاختياري.
ينتباني خوف من فشل دراسي جديد كنت قد تجاوزته في العامين الماضيين، فقد كفتني العناية الإلهية وحدها الرسوب فيهما، لكنني لا أتعلم الدرس أبدًا وأصر على دفع التكلفة من سنوات عمري دائمًا. 
لا أعلم كيف أصابني كل هذا الكسل وأعاقني عن مواصلة الحياة، لا أشعر فور استيقاظي من النوم سوى اشتياقي إلى سريري حيث رائحة النوم الدافئة، ومن كثرة ما أطعت شوقي بدأ جسدي في التعفن وأطرافه في التحلل وتصاعدت مني رائحة نتنة كأن الله توفاني منذ زمن بعيد. المضحك حقًا أنني خجلت من الخروج إلى العالم بهيئتي الزومبية هذه، فاخترت أن أكون غائبًا عن الصور والأعين، أرقد في قاع البئر، وأترك الدائرة المظلمة تنغلق عليّ، وأذكر نفسي جيدًا في أن الناس لا يحبونني ولا يريدونني بينهم. أدرك بقوة اليوم أن ما يدفعني نحو الطرق الخاطئة سيهلكني في بحيرات العبثية.
لكن لأكن واقعيًا، أنا لست عبثيًا على الإطلاق، بل مؤمن كل الإيمان بالسببية، السبب والنتيجة والفعل ورد الفعل. يجب على الجميع أن يدعوني أسدد ديوني القديمة، لا أسأل أحدًا، مثل أولئك الحمقى من يعتقدون في أنفسهم البراءة والطهر، "ماذا صنعت؟ هل جنيت على أحد؟ أنا لم أفعل شيئًا"، هناك ذنب عليه أن ينتقم من أحدهم. ليكن أنا مثلاً..

السبت، يناير 07، 2012

"حجرتان وصالة": إبراهيم أصلان يواجه الوحدة والموت

الناشر: دار الشروق
تاريخ الإصدار: 2009
التقييم: 8 / 10

عاد إبراهيم أصلان إلى الإهتمام بفنه الأول، فن القصة القصيرة، بمتتالية قصصية "منزلية" أطلق عليها "حجرتان وصالة". فمنذ أن غادر حي إمبابة الذي نشأ وكبر فيه واستقى منه أغلب قصصه وحكاياته وانتقل إلى العيش بمنطقة المقطم، لم يصدر له إلا كتابين يسرد فيهما بعضًا من سيرته الذاتية. يصور أصلان في متتاليته حياة أسرة متوسطة لا تبتعد كثيرًا عن عالمه القصصي، لكن عادية الشخصيات وبساطة الأحداث تكشف تدريجيًا عن آلام ومخاوف باطنية من الوحدة والموت.
ترسم القصص حياة "الأستاذ خليل" مع أسرته وعلاقته بأصدقائه وتغوص في نسيج مواقفه العابرة، ويعتمد أصلان في هذا الرسم على أسلوبه اللغوي الهادئ الدقيق بما يتناسب مع خصوصية التفاصيل اليومية. تصف القصص الأولى ألفة العلاقة التي تجمع خليل وزوجته بعد أن كبر بهم العمر وتزوج أبناءهم، فتترك أثرها الدافئ في الروح ببطء بالغ، ففي قصة "كان يعتقد"، لا يملك القارئ إزاء سخرية الزوجة من تكرار زوجها لكلمة "أعتقد" في أحاديثه إلا أن يبتسم، أو أن يبتسم لغرابة أحاديثهما وعبثيتها في قصة "آخر النهار"، لكن سرعان ما يواجه معه برودة الوحدة وألمها بعد وفاة زوجته وانتقاله مرة أخرى إلى حيه القديم.
تنقل القصص الأخرى بطريقة مباشرة وغير مباشرة كم هائل من الأسئلة المدهشة والمؤلمة التي لا إجابة لها، نجدها في قصة "عند مدخل المقهى" و"حاجات قديمة"، أما في قصة "زقاق جانبي" يخاطب خليل إحدى ربات البيوت قائلاً: "شوفي حضرتك، أنا ضيعت ستين سنة من عمري على الاقل وأنا عندي أسئله من هذا النوع، نفسي اسألها ولا أقدر، لأني كنت محرج، ودي مأساة يا هانم... علشان كده انا قررت من ساعة وفاة الحاجه إن أي سؤال يشغل بالي لازم اسأله على طول، وأنتي كمان، أي سؤال يشغلك اسأليه. دي نصيحتي ليكي، السؤال مش عيب أبدًا".
يتجرد أصلان في متتاليته الأخيرة من المحسنات اللفظية والتكلف في السرد لكنه يظل قادرًا على أسر القارئ بإنسانية خالصة من خلال أسلوبه السينمائي في تصوير التفاصيل البسيطة.

* كتبت هذه المقالة لمجلة سكندرية ولم يكتب لها النشر